الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
اجتماعه بنفر من قريش ليبيتوا ضد النبي صلى الله عليه و سلم و اتفاق قريش أن يصفوا الرسول صلى الله عليه و سلم بالساحر ، و ما أنزل الله فيهم ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ؛ قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقلْ وأقمْ لنا رأيا نقول به ؛ قال : بل أنتم فقولوا أسمعْ ؛ قالوا : نقول كاهن ؛ قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ؛ قالوا : فنقول : مجنون ؛ قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛ قالوا : فنقول : شاعر ؛ قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ؛ قالوا : فنقول : ساحر ؛ قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ؛ قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام : ويقال لغَدَق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره . فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة و في ذلك من قوله : قال ابن هشام : عنيد : معاند مخالف . قال رؤبة بن العجاج : ونحن ضرابون رأس العُنَّدِ * وهذا البيت في أرجوزة له . قال ابن هشام : بسر : كره وجهه . قال العجاج : مضبر اللحيين بسرا منهسا * يصف كراهية وجهه . وهذا البيت في أرجوزة له . قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى : في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به من الله تعالى : قال ابن هشام : واحدة العضين : عضة ، يقول : عضوه : فرقوه . قال رؤبة بن العجاج : وليس دين الله بالمُعَضَّى * وهذا البيت في أرجوزة له . (2/ 108) قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس ، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها . فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التى تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه ، فقال : ولما رأيت القوم لا ود فيهمُ * وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنّة * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه * لدي حيث يقضي حلفه كل نافل وحيث يُنيخ الأشعرون ركابهم * بمفضَى السيول من إساف ونائل موسمَّة الأعضاد أو قصراتها * مخُيَّسة بين السَّديس وبازل ترى الودع فيها والرخام وزينة * بأعناقها معقودة كالعثاكل أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو مُلحّ بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل وبالبيت ، حق البيت ، من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورة وتماثل ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذي نذر ومن كل راجل وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له * إلالٌ إلى مُفضَى الشراج القوابل وتوقافهم فوق الجبال عشية * يقيمون بالأيدي صدور الرواحل وليلة جمع والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمة ومنازل وجمع إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل وكندة إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حُجَّاج بكر بن وائل حليفان شدا عقد ما احتلفا له * وردَّا عليه عاطفات الوسائل وحطمهمُ سمُر الصفاح وسرحه * وشبرقة وَخْدَ النعام الجوافل فهل بعد هذا من معاذ لعائذ * وهل من معيذ يتقى الله عاذل يُطاع بنا أمر العدَّى وودّوا لو اننا * تُسد بنا أبواب ترك وكابل كذبتم وبيت الله نترك مكة * ونظعن إلا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله * و نذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكمُ * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل وحتى ترى ذا الضغن يركب * رَدْعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل وإنا لعمر الله إنْ جدَّ ما أرى * لَتلتبسنْ أسيافنا بالأماثل بِكفَّيْ فتى مثل الشهاب سميدع * أخي ثقة حامي الحقيقة باسل شهورا وأياما وحولا مجَرَّما * علينا وتأتي حِجة بعد قابل وما ترك قوم ، لا أبا لك ، سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهُلاّف من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل لعمري لقد أجرى أسيد وبكره * إلى بغضنا وجزّآنا لآكل وعثمان لم يربع علينا وقنفذ * ولكن أطاعا أمر تلك القبائل أطاعا أُبيّا وابن عبد يغوثهم * ولم يرقبا فينا مقالة قائل كما قد لقينا من سُبيع ونوفل * وكلٌّ تولى معرضا لم يجُامل فإن يُلْقيا أو يمُكن الله منهما * نكلْ لهما صاعا بصاع المُكايل وذاك أبو عمرو أبي غير بُغضنا * ليُظعننا في أهل شاء وجامل يناجي بنا في كل ممسى ومصبح * فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل ويُؤْلى لنا بالله ما إن يغشُّنا * بلى قد نراه جهرة غير حائل أضاق عليه بغضنا كل تلعة * من الأرض بين أخشب فمجادل وسائلْ أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل وكنت امرأ ممن يُعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * حسود كذوب مبغض ذي دغاول ومر أبو سفيان عني معرضا * كما مر قَيْلٌ من عظام المقاول يفر إلى نجد وبرد مياهه * ويزعم أني لست عنكم بغافل ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيق ويخفي عارمات الدواخل أمطعمُ لم أخذلك في يوم نجدة * ولا معظم عند الأمور الجلائل ولا يوم خصم إذا أتوك ألدّة * أُولي جدل من الخصوم المساجل أمطعم إن القوم ساموك خطة * وإني متى أُوكلْ فلست بوائل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل بميزان قسط لا يخُسّ شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلف قيضا بنا والغياطل ونحن الصميم من ذؤابة هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل وسهم ومخزوم تمالوا وألَّبوا * علينا العدا من كل طمل وخامل فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل لعمري لقد وهنتمُ وعجزتمُ * وجئتم بأمر مخطىء للمفاصل وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم الْ آن * حطاب أَقدُر ومراجل ليهنىء بني عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل فإن نك قوما نتَّئر ما صنعتمُ * وتحتلبوها لقحة غير باهل وسائط كانت في لؤي بن غالب * نفاهم إلينا كل صقر حُلاحل ورهط نفيل شر من وطىء الحصى * وألأم حاف من معد وناعل فأبلغ قصيا أن سيُنشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنا أٌسى عند النساء المطافل فكل صديق وابن أخت نعده * لعمري وجدنا غِبَّه غير طائل سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقَّة خاذل وهنَّا لهم حتى تبدد جمعهم * ويحسر عنا كل باغ وجاهل وكان لنا حوض السقاية فيهم * ونحن الكُدى من غالب والكواهل شباب من المطيِّبين وهاشم * كبيض السيوف بين أيدي الصياقل فما أدركوا ذحلا ولا سفكوا دما * ولا حالفوا إلا شرار القبائل بضرب ترى الفتيان فيه كأنهم * ضواري أسود فوق لحم خرادل بني أمة محبوبة هندكية * بني جمح عُبيد قيس بن عاقل ولكننا نسل كرام لسادة * بهم نُعي الأقوام عند البواطل ونعم ابن أخت القوم غير مكذَّب * زهير حساما مفردا من حمائل أشمُّ من الشم البهاليل ينتمي * إلى حسب في حومة المجد فاضل لعمري لقد كُلِّفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها * وزينا لمن والاه رب المشاكل فمن مثله في الناس أي مُؤمَّل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش * يوالي إلاها ليس عنه بغافل فوالله لولا أن أجيء بسنة * تجُر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة * من الدهر جِدّا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذَّب * لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد في أرومة * تُقصِّر عنه سورة المتطاول حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرا والكلاكل فأيده ربُّ العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير باطل رجال كرام غير مِيل نماهم * إلى الخير آباء كرام المحاصل فإن تك كعب من لؤي صُقيبة * فلا بد يوما مرة من تزايل قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها . الرسول عليه الصلاة والسلام يستقي لأهل المدينة حين أقحطوا ، فنـزل المطر ، وود لو أن أبا طالب حي ، ليرى ذلك قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ، قال : أقحط أهل المدينة ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكوا ذلك إليه ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فاستسقى ، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن المدبنة فصار حوليها كالإكليل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أردك أبو طالب هذا اليوم لسره ، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله : وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل قال : أجل . قال ابن هشام : وقوله ( وشبرقة ) عن غير ابن إسحاق . ذكر الأسماء التى وردت في قصيدة أبي طالب قال ابن إسحاق : والغياطل : من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية . ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف . وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، و أمه عاتكة بنت عبدالمطلب . قال ابن إسحاق : وأسيد ، وبكره : عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . وعثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله التيمي . وقنفذ بن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة . وأبو الوليد عتبة بن ربيعة . وأُبيّ الأخنس بن شريق الثقفي ، حليف بني زهرة بن كلاب . قال ابن هشام : وإنما سمي الأخنس ، لأنه خنس بالقوم يوم بدر ، وإنما اسمه أُبي ، وهو من بني علاج ، وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقبة . والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب . وسبيع بن خالد ، أخو بلحارث بن فهر . ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وهو ابن العدوية . وكان من شياطين قريش ، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما في حبل حين أسلما ، فبذلك كانا يُسميان القرينين ؛ قتله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر . وأبو عمرو قُرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف . ( وقوم علينا أظنَّة ) : بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فهؤلاء الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب . فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب ، وبلغ البلدان ، ذكر بالمدينة ، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر ، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود ، وكانوا لهم حلفاء ، ومعهم في بلادهم . فلما وقع ذكره بالمدينة ، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف . قال أبو قيس بن الأسلت . أخو بني واقف . قال ابن هشام : نسب ابن إسحاق أبا قيس هذا هاهنا إلى بني واقف ، ونسبه في حديث الفيل إلى خطمة ، لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه . قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة : أن الحكم بن عمرو الغفاري من ولد نُعيلة أخي غفار . وهو غفار بن مليل ، ونعيلة بن مليل بن ضمرة بن بكر ابن عبد مناة ، وقد قالوا عتبة بن غزوان السلمي ، وهو من ولد مازن بن منصور وسُليم بن منصور . قال ابن هشام : فأبو قيس بن الأسلت : من بني وائل ؛ ووائل ، وواقف ، وخطمة إخوة من الأوس . قال ابن إسحاق : فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشا ، وكان لهم صهرا ، كانت عنده أرنب بنت أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة ، وينهى قريشا فيها عن الحرب ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض ، ويذكر فضلهم وأحلامهم ، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكرهم بلاء الله عندهم ، ودَفْعَه عنهم الفيل وكيده عنهم ، فقال : يا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة عني لؤي بن غالب رسول امرئ قد راعه ذات بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب وقد كان عندي للهموم معرَّس * فلم أقض منها حاجتي ومآربي نُبيِّتكم شرجين كل قبيلة * لها أزمل من بين مُذْك وحاطب أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودس العقارب وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة * كوخز الأشافي وقعها حق صائب فذكِّرهم بالله أول وهلة * وإحلال أحرام الظباء الشوازب وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب متى تبعثوها تبعثوها ذميمة * هي الغُول للأقصَين أو للأقارب تُقطِّع أرحاما وتهلك أمة * وتَبرْي السديف من سنام وغارب وتستبدلوا بالأتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثياب المحارب وبالمسك والكافور غُبرْا سوابغا * كأن قتيرَيْها عيون الجنادب فإياكمُ والحرب لا تعلقنَّكم * و حوضا وخِيم الماء مر المشارب تزين للأقوام ثم يرونها * بعاقبة إذ بيَّنت ، أم صاحب تحرق لا تُشوي ضعيفا وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب وكم قد أصابت من شريف مسوَّد * طويل العماد ضيفُه غير خائب عظيم رماد النار يحُمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب وماء هُريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب يخبركم عنها امرؤ حق عالم * بأيامها والعلم علم التجارب فبيعوا الحراب مِلْمُحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب وليّ امرىء فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبا غير رب الثواقب أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم * لنا غاية قد يهتدى بالذوائب وأنتم لهذا الناس نور وعصمة * تُؤَمُّون ، والأحلام غير عوازب وأنتم ، إذا ما حصل الناس ، جوهر * لكم سرة البطحاء شم الأرانب تصونون أجسادا كراما عتيقة * مهذبة الأنساب غير أشائب ترى طالب الحاجات نحو بيوتكم * عصائب هلكى تهتدي بعصائب لقد علم الأقوام أن سراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب وأفضله رأيا وأعلاه سنة وأَقولُه للحق وسط المواكب * فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب كتيبته بالسهل تمُسي ورَجْلُه * على القاذفات في رءوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلْحُبْش غير عصائب فإن تهلكوا نهلكْ وتهلكْ مواسم * يُعاش بها ، قول امرئ غير كاذب قال ابن هشام : أنشدني بيته : ( وماء هريق ) ، وبيته : ( فبيعوا الحراب ) ، وقوله : ( ولي امرىء فاختار ) ، وقوله : على القاذفات في رءوس المناقب * أبو زيد الأنصاري وغيره . حرب داحس والغبراء قال ابن هشام : وأما قوله : ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فحدثني أبو عبيدة النحوي : أن داحسا فرس كان لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قُطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان ؛ أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن زيد بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، يقال لها : الغبراء . فدس حذيفة قوما وأمرهم أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقا ، فجاء داحس سابقا فضربوا وجهه ، وجاءت الغبراء . فلما جاء فارس داحس أخبر قيسا الخبر ، فوثب أخوه مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء ، فقام حمَل بن بدر فلطم مالكا . ثم إن أبا الجُنَيْدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله ، فقال حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر : قتلنا بعوف مالكا وهو ثأرنا * فإن تطلبوا منا سوى الحق تندموا وهذا البيت في أبيات له . وقال الربيع بن زياد العبسي : أفبعد مقتل مالك بن زهير * ترجو النساء عواقب الأطهار وهذا البيت في قصيدة له . فوقعت الحرب بين عبس وفزارة ، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر ، فقال قيس بن زهير بن جذيمة يرثي حذيفة ، وجزع عليه : كم فارس يُدعى وليس بفارس * وعلى الهباءة فارس ذو مَصْدَقِ فابكوا حذيفة لن تُرَثُّوا مثله * حتى تبيد قبائل لم تخلق وهذان البيتان في أبيات له . وقال قيس بن زهير : على أن الفتى حمل بن بدر بغى والظلم مرتعه وخيم * وهذا البيت في أبيات له . وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير: تركت على الهباءة غير فخر * حذيفة عنده قصد العوالي وهذا البيت في أبيات له . قال ابن هشام : ويقال : أرسل قيس داحسا والغبراء ، وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء ، والأول أصح الحديثين . وهو حديث طويل منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . حرب حاطب قال ابن هشام : وأما قوله : ( حرب حاطب ) . فيعني حاطب بن الحارث ابن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، كان قتل يهوديا جارا للخزرج ، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج - وهو الذي يقال له : ابن فُسحم ، وفسحم أمه ، وهي امرأة من القين بن جسر - ليلا في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه ، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا ، فكان الظفر للخزرج على الأوس ، وقتل يومئذ سويد بن صامت بن خالد بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، قتله المجذَّر بن ذياد البلوي ، واسمه عبدالله ، حليف بني عوف بن الخزرج . فلما كان يوم أحد خرج المجذر بن ذياد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج معه الحارث بن سويد بن صامت ، فوجد الحارث بن سويد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه . وسأذكر حديثه في موضعه إن شاء الله تعالى . ثم كانت بينهم حروب منعني من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس . شعر حكيم بن أمية في نهي قومه عن عداوة الرسول صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق : وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي ، حليف بني أمية وقد أسلم ، يورّع قومه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم شريفا مطاعا : هل قائل قولا هو الحق قاعد * عليه وهل غضبان للرشد سامعُ وهل سيد ترجو العشيرةُ نفعه * لأقصى الموالي والأقارب جامع تبرأت إلا وجه من يملك الصبا * وأهجركم ما دام مُدْل ونازع وأُسلم وجهي للإله ومنطقي * ولو راعني من الصديق روائع قال ابن إسحاق : ثم إن قريش اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم : سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به ، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم كفرهم . قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال : قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته ؟ قال : حضرتهم ، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا : فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول . قال : فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذبح . قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا . قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم ؛ فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه . فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، أنا الذي أقول ذلك . قال : فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه . قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط . قال ابن إسحاق : وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر ، أنها قالت : لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه ، مما جبذوه بلحيته وكان كثير الشعر . قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه ، لا حر ولا عبد ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منـزله ، فتدثر من شدة ما أصابه ، فأنزل الله تعالى عليه :
|